كانت الحيرة تستبد بي، من ضيقِ أسئلة لم تعد الإجابات التقليدية كافية لها،ووجوه لم يعد النظر إليها يبث الراحة القديمة، فــ جلست هناك أنفث تساؤلاتي الكثيفة، وأرقب دخانها وهو يتداخل في جزيئات هواء .. يلفظها
أطلقت العنان لقدمٍ رغبت منها أن تأخذني الى أية مكان، شريطة أن يكون بعيداً عن هنا، بعيداً عن بقعة أوجاعي الكثيرة، وحكايا الم لا تنفك تعصف بما تبقى من راحاتي .. فوجدت ذاتي في مقهى، يمره العابرون ولا يستوطن به أحد.
كنت أمرغ سبابتي في بن القهوة وأعبث به، وأرسم بنفسي الحياة التي أرغب أن تكون لي، وأخدع بها دجّالة تأتيني لــ تروي لي ما رويته أنا قبلها في بن الكوب الخاص بي، حتى دخل هناك ذاك الرث بملابسه الباليه، وروحه الموجوعة، وخطواته المتثاقلة، يجلس هناك في المدى البعيد ويقلب نظراته على يديه الجامدتين من أية حراك يّذكر.
تقدمت إليه وسألته عما دخل معه في عراك دموي جعله بهذا المنظر البائس، وما إن كان له أعداء أمتصوا ما لديه من كرامة وحس عالي في الحياة .. فلم أرقب إلا دمعاته وهي تبلل السطح الخشبي الذي فصّلنا.
رأيت بهذا الإنسان شيء يشبهني لم أدركه، ولم أستشف وجوده من بين الكلمات التي رماها بإهمال على سطح المنضدة هناك وأوجعتني، قال لي:
بإمكانك اعتباري الناجح الذي تخلى العالم دون تمهيد عن خدماته حتى أطرحوه ذلك الفاشل الذي لا يستفاد من أعماله ولا نشاطاته التي اعتادت أن تكون خارقة للمألوف والعادة، حاولت العودة مجدداً الى المجد الذي تركته لكن رأيت أن الطريق أمامي طويل وإن الحياة قد تكون أقصر من أن أمضيها خلف حلم لم يعد يرغب بوجودي، فــ قررت الإبتعاد حتى أترك فجوة ضخمة تنبه هؤلاء عن المكانة التي صنعتها بنفسي وخلقت من خلفها التغييرات الجمة التي لم يعد أحد يلحظها بقدراتي.
تركت البلد وأمضيت أعوامي الكثيرة في غربةٍ سمحت لها بأن تأكل روحي، ومع ذلك صمدت ولم أهتم بالعودة، المكوث في الغربة خير من العودة لديارٍ غير مُنصفة تذكرني كل يوم بأني فائض عليها وإني الفرد الذي لم يعد وجوده يفيد.
كنت أعمد على إدارة المحطات بما لا يأتي على ذكر بلدي، كنت أعمد على تجاهل الأخبار التي تصلني منهم، لكني وحين علمت بالمآسي التي تحدث إليه كل يوم، استفاق في داخلي مواطن، رغب بالعودة وإعادة السلام الى البلد الذي سّلمني صك مواطنته.
حين سمعت عن غدر الجار إليه لمحت معصمي فرأيت الدمامل الكثيرة تحوطه، وحين تلقيت خبر السرقات، فتحت محفظتي لأرى النقود وقد تلاشت من مكانها، كان يموت، وكنت أرى الدماء تلطخ يدي كلما تحسست بها روحي الذي لم تعد تشعر بأي شيء سوى بالوطن.
قررت العودة الى هناك لكني وحين زرت مقر العمل الخاص بي، وجدتهم قد استبدلوني بآخر، لا يملك أي كفاءة لــ يدير وطن مثل وطني الذي عرفته شامخاً منذ حييت، لكنهم ومع هذا فعلوا على أية حال. حاولت المطالبة بحقوقي في العودة لكني سرعان ما وجدت ذاتي على العتبات أطلق الأسئلة الكثير عما يسبب لي كل هذا البؤس المتزمت.
بدأت أرتاد المقاهي، كنت أبحث عن وجوه يملأني حباً وروائح تنتشل مني إصرار الإغتراب وتسحبني مجدداً الى المكوث بالوطن. شيئاً مثل هذا لم يحصل أبداً سوى المزيد من الرفض.
بدأت أزوره بين الفينة والأخرى، وحين أفعل ذلك، أفعلها متنكراً حتى لا يبصر شوقي الكثيف إليه .. وأبدو إليه ضعيفاً
لم يفتني سؤاله عن اسمه فقال بعد تنهيدة .. أنا .. أنا .. الوطن !
قال مستدركاً: وأنتِ؟
أنا التي يجتاحني السؤال المُر عن الشخص الذي انتشلت مكانته دون وجه حق، أنا التي بحث عنك طويلاً لأستجلبك الى مكانك الأصل، الى أن أجبته بإبتسامة صفراء: أنا البديل الذي لا يزالوا يعتبرونه دخيلاً.