فتحت النوافذ، أزلت الستائر عنها، ومضيت أتأمل، ما إن كانت حركة السيارات بالأسفل دليلاً قطعيا على وجود الحياة؟ وما إن كانت دليل على انسانيتنا التي لسببٍ ما توقفت عن الإيمان بها؟ هل الصرخات المنبعثة من المظلومين في محطات انتظار العدالة تأكيد حقيقي على وجود الظلم؟ وما إن كانت الضحكات التي تبدر من المترفين دليل على استحالتها من الوصول إلينا؟
جلست على المقعد الوثير هناك، أنفث همي
لأن الواقع قبيح، اتخذت عدد من الأصباغ الملونة ورحت أدهن الحوائط جميعها حتى اقتل صمتها البارد واضفي الى العالم الخاص بي بعض الحماس بدلاً عن هذا الجمود، رسمت عليها فراشات جميلة تُرفرف وفي الركن البعيد هناك رسمت حمامات بيضاء تضج بالحرية، وبالأسفل عشب يملئه الإخضرار وتملئه الحيوية، وهناك ينبوع تنساب منه المياه كخيوط حريرية، وفي لحظة خاطفة التفت الى الخلف حتى أبلل الفرشاة بيدي بلونٍ زاهي يساعدني على تلوين جديد، وإذ بالحائط بعد عودة أنظاري إليه، تحول الى أرضٍ جدباء تنبعث منها الحرائط من كل مكان، والفراشات والطيور، قد سقطت أرضاً دون رحمة.
لأن الواقع قبيح ارتبطت بعلاقة وثيقة مع مسجل الصوت الخاص بهاتفي، أسجل به شكواي بين الأحيان وابثه الدموع الكثيرة، حتى يخيل لي أحياناً بأني أتحدث مع شخص بروح حقيقية يمد يده لي بالدفء والحميمية، وأبدأ أستمع الى الإحباط الذي كنت عليه يوماً وأشفق على ذاتي الكسيرة. ثمة غصة مهيبة تقتل بي الرغبة بالحياة، ثمة شعور متبلد يجعل الأيادي تتسلل الي لتصفعني بصفعة حتى أعود الى وعيي وأنا معهم بينما تكون عيني في تلك الأثناء ترمق الخواء. أتأمل ضحكات الناس من حولي وما إن كانت اختراق للطبيعة البشرية المعروفة، وما إن كانوا هؤلاء الناس ممثلين؟
حتى إني وفي لحظة فاصلة عن الزمن، استخرجت كافة الثياب القاتمة لأستبدلتها بأخرى ملونة علها تضفي الى الحياة شيئاّ من البهجة، ما إن رغبت برميها عني بعيداً، حتى بدأت تصب عينيها المنكسرتين بي وما إن كنت متأكدة بأني سأتخلص من ثياب تعبر عن السواد الذي يصطبغ بداخلي؟
حين لطخت شفتي بأحمرار قاني، وجدت إني أخدع نفسي وإن هذه البقعة المتمركزة على شفتي، كذبة اختلقتها لأوهم الناس وأوهم ذاتي بأني انسانة سعيدة وهذا الأحمرار هو الدليل على ذلك الأمر .. يا لبئس هذا الدليل.
في إحدى الليالي التي كنت بها أتأبط يأسي مررت على شارع خاوي رغبت أن أودع إليه بعض الإحساس، وإذ بالهاتف يرن من رقمٍ أجهله يخرج من أعماقه صوت إمرأة بدت لي غامضة.
- منى؟
- نعم؟
- لديك سقف من الأحلام التي تحدها بعض القيود
- ...
- وفي صوتك انكسار يبثني بالشفقة عليك
- ..........
- وجانبك العاطفي مربك، دعيني أراك حتى أخبرك بما يجب عليك أن تفعليه.
وانتهت المكالمة
وقفت في المنتصف، أرقب رجلي المرتجفتين، وأسأل إن كان جميع المارة هنا يدركون ما حصل لي للتو؟ أو ان الجميه ها هُنا يدركون جيداً ما أمر به؟
***
لأن الواقع قبيح دفعت أصابعي الى الكتابة قسراً، لرغبتي بحياةٍ من ورق أشكل أبطالها وأحداثها وصدفها كما أريد .. وفي ذات الليلة فقط .. حلمت بغريبة تمد يدها لمصافحتي بحرارة، وبعد أن أزالتها .. رأيت انها اقتلعت أصابعي .. وأصبحت بيدٍ عاجزة عن الكتابة، وانتشلت من بين يدي الشيء الوحيد الذي أملك ايماناً مطلقاً بوجوده.
رحت أتأمل أصابعي المبتورة، وأسأل ذاتي ما إن كان مصدر ابداع المرء يبدر من يده، أو من عقله الذي يمده بالأوامر لصناعة مجد عالي، وما إن كنت فقدت الإبداع الى الأبد، ان كنت قد بلغت أصلاً مرحلة الإبداع؟ وأنا التي لا أدرك ما يكون؟
مزقت أحد أكمام القميص، ولففته بعناية حول الأصابع المبتورة، وخرجت الى الشوارع أجوب بها بحثاً عن من يساعدني في هذه المحنة. في الزاوية هناك كان هناك طفلاً يدور حول السيارات طمعا بأن يشتري أحد منه صحيفة، بينما كان المارة يشيحون بأيديهم في وجهه ليبتعد، بيد أن الجرائد تأخذ مصائب الناس لترهق بها آخرين يقرؤوها.
في المستشفى، اسمع صرخات الأمهات العالية إثر ولادتهم لأطفال مجهولين الأب، لا تزل أمهاتهن يستعرضن الأسباب الكثيرة وراء هروب ذلك السفاح حين فعل فعلته وهرب، والطفل؟ بمجرد ما يخرج رأسه الى الحياة ويتمعن الأعين العاتبة على وجوده ينكمش على نفسه، ويدب في قلبه الخوف، ويبكي هو الآخر في محاولةٍ عسيرة منه لأن يشيحوا عن أعينهم هذا الملام، والدكتور الذي ينفث الإرهاق من بين فتحتي أنفه التي تبدو وفي أي لحظة ستبعث شرار القهر، حتى الممرضات هُن الأخريات مللن من ذات السيناريو، أن يشهدوا على ولادة طفل بريء سيتحول بعد سنين الى طاغية ظالم سيكون سبب في قتل الكثير من الأطفال الأبرياء؟
تصلبت شراييني وأنا أرقب كافة تلك الأحداث بأعينهم، وأنا التي أتيت الى هُنا بحثاً عن أمان وعمن يداوي لي أصابعي المبتورة ويأتيني بأخرى أمارس بها العدالة في تلك الحياة.
وأثناء ترقبي اسمي يظهر من بين قائمة المرضى المنتظرين، جاء رجل ببزة ثمينة، ودهس بأرجله على فرص الفقراء ودخل على الدكتور لمعالجة هم الوالي، فخرج فوراً معه متناسياً المحتضرين بالخارج وهو يترقبون منه دواء.
هذه الحياة جاءت لتمنح فرصها الكثيرة لأشخاصٍ لم يرهقوا ذواتهم بجهد كبير، ولم يتحملوا التعب الذي حمله الصبورين فوق أكتافهم، هذه الحياة جاءت لتصنع من الطفل الرضيع ديكتاتور مستقبلي، وتصنع من الوديان المخضرة أرض قاحلة جدباء تفتقد المياه والورود الكثيرة.
كل شيء هنا يتقلب وفق أسس لا تحمل العدالة وبذات الوقت ينتظرون أن تنبت الأرض عدالة ومساواة وهم الذين لا يؤمنون بهذه الكيفية.
كيف للأنفس الضالة أن تصل الى الجنان وهي التي نضجت في دولة غابت بها العدالة؟
عدت الى بيتي سريعاً ومسكت السكين وقطعت بقية الإصابع السليمة، هكذا أفضل، فالإصابع التي ارهقها طلب الحقوق أصبحت بالية، ووجودها ليس سوى " لفتة جمالية " نخدع بها الناس بأننا مثل معظم الآخرين نملك أصابع ونملك قدرة صوتية عالية.