كان من أبرز الأصدقاء الذين أودع لديهم كافة الأسرار الخاصة والتي لا يعلم بها أي أحد، فالثقة والأمان التي يبثها لي تقفز فوق كل الحدود والإطارات التقليدية التي لا تفعل إزائها الفتاة سوى أن تستثمرها لصالح ذاتها ولصالح العلاقة النادرة، التي تربطها بشخصية مريحة تغمسها في بقعة من الأمان.
في التجمعات العائلية والمجالس التي تجتمع بها العائلتين، لم نكن نخجل من توضيح كم الإنسجام الذي نحن عليه والذي كان يقربنا الى حد يودع الشكوك الكثيرة في نفوس الفتيات اللاتي يضمرن حباً لصديقي، وابن خالتي بذات الوقت " صيب "، والذي كان بالمقابل لا يبادلهن أي شعور، وتأكدت من ذلك بعد اعترافه بأنه يبحث عن تلك النادرة التي يرغب بأن يمنح قلبه كاملاً إليها دون أي تردد.
- تصدقين أنا جربت أحب مرة، بس البنت على كثر ما كانت حلوة ودلوعة وتشوق على كثر ما كانت وحدة تافهه، أحس لو يحصل لي افتح عقلها بلقاه أبيض !
- " قهقهة " ليش متوقع بتكون مدرسة لغة عربية، ولا بتحاضر فيك بالسياسية، كل واحد وعلى قد تفكيره واهتماماته يا صيب !
- لا بس خلينا نكون واقعيين، الواحد يحتاج ساعات يكون مع انسان يفكر معاه، يخطط معاه، يستفزه بالنقاش، يتحاور وياه في أمور موجودة بالديرة يمكن يحاولون اثنينهم يسوون شي لها، مو أنا ورفيجاتي، احنا وشاليهنا، وسويسرا وأمي، اوكي وبعدين؟
- خلك خلك من هالسوالف، حبيتها؟ " بغمزة "
- حبيت ويها، كانت تشبه هذي شانيا توين، ولا جان ما ضيعت دقيقة معاها، ويع ويع، تذكرتها واهيا شلون تتصنع الدلع، انزين اذا اهيا حلوة خلقة، ماله داعي كلش تلوي حنجها عشان تعشمني فيها، والله انتوا البنات مصيبتكم مصيبة.
كلما كُنا نختلف أنا وأمي على موضع، تعارض به قناعاتي وتتهمني به بقلة النضج والحيلة كنت الجأ اليه دون أية تردد.
- يعني البنت اذا تبي تدش مجال تحبه صارت وحدة مو زينة؟ - بعبرة -
- ليش تقولين هالكلام عن نفسج، بعدين يا حبيبتي لا تقعدين تبجين خلاص، خالتي معاها حق، ترى اهيا مو ضدج ولا وحدة ما تبي مصلحتج، كل الموضوع إن المجالات اللي تختارينها في اختلاط بين الشباب والبنات بطريقة فيها وايد ميانة، ووسط مثل هذا ممكن الواحد ما يفهم طبيعة دورج فيه بنفس الإسلوب اللي انتي تبين الناس تفهمج فيه، لا تكبرين المواضيع.
مترادفات الحب التي كانت تتردد على لسانه بعفوية مطلقة، لا يقصد بها أي عاطفة نحوي بأي شيء سوى الود، وذات الأمر حين أربت على ظهره كلما لمحت الضيق بعينيه. كان هناك نوع من أنواع الطهر والبراءة تلف صداقتنا النفية ولا شيء دون ذلك.
في ذلك اليوم، وحين حاولت الحديث معه كما اعتدنا، حصل وان خرج من الصالون الى الخارج للذهاب، لم أتصور مطلقاً بأن الأمر كان يعنيني، الى أن استوقفته حتى أبادله التحية، وجحدني بنظرة مطولة غامضة وأدار وجهه عني وذهب.
اتصل به مراراً وأجده لا يرد إلا بعد عناء، حتى الرسائل التي كان يبعث لي إياها بالوقت الذي أشعر به بحاجتي له أصبح لا يكتبها لي، والرسائل التي ابعثها أنا أضحت من الرسائل التي لا يرد عليها فوراً، حاولت مراراً أن افكك في ذهني كم هذا الطلاسم الذي حل على ابن خالتي، وهو الذي يرتبط بي ايما ارتباط.
لا أدري ان كان الأمر يتعلق بعاذل نصب ذاته بيننا وأحال كل ما كان جميلاً بالأمس، لكنه بالمقابل ليس من اولئك الذين يتمسكون بالحجة دون دليل وبرهان، وإن كان الأمر بسببٍ؟ لماذا انا الى اليوم لا أعرف شيء عن هذا السبب ونحن الذين اعتدنا أن تكون مثل الكتاب المفتوح؟ أم ان العاطفة ناحيتي بدأت تهدأ؟ في الصداقة هناك لا عواطف تموت اذا ما تعززت؟ فتاة جديدة؟ هو الذي يخبرني بكافة أسراره وخبايا علاقته فما الداعي الذي سيجعله يصمت هذه المرة عن التصريح عن شيء يربطه بأخرى؟ وإن كانت هناك فتاة في حياته لما سيكون وجودها خطراً علينا؟
كل الإحتمالات تبدو سخيفة عندما تقف أمام رابط يجمعنا كجمود الجبال في قوته و في صد العاذلين، كل الإحتمالات تبدو سخيفة أمام شيء اعتاد أن يصد السخف من كل جوانبه، الى اليوم ما زال التجاهل يرهقني جداً ويسبب لي الكثير من التيه.
لعل التجاهل أحياناً يعبر عن الإهتمام الكثير، لعله يعبر عن الرغبة في الهروب الأبدي الذي لا يقبل بأي رجعة، لكن ما العلة في من ينسحب من منتصف الطريق ويفر راحلاً دون أن يترك أثر أو تنويه عن سبب ما يشعر به؟ هؤلاء البشر بنوعٍ كهذا لا يحملون في قلوبهم أي نطفة احساس، كيف لهم ألا يفكروا في الأشخاص الذي يتركونهم في دوامة أسئلة لا تحمل أي جواب؟ كيف يعلقون رقابهم على شفا هاوية يدركون جيداً إن الأرض المتزعزعة أسفل أقدامهم ستتحطم؟
والى اليوم أبصر ظهره الراحل في كل مرة أحاول بها أن أتقدم لأحطم هذا الغموض، والحكايا؟ أصبحت مبتورة ما بينه وبينه، كلما تحدثت وجدته وقد أنصب سبابته في وجهي طالباً مني السكوت لرغبته في الذهاب الى موعدٍ مستعجل.
في كل مرة أحاول التركيز بها بعينيه، أرى شيئ لا تألفه عيني، أرى وجه خالي من أية ملامح اعتدت أن احفط تفاصيلها، هذا الرجل بلباس رجل لا أعرف من يكون، ودون أي عذر؟ وان كان قبيح؟ فهذا كل ما يفقدني الصواب.
لم يعد يرغب بالمكوث معي في مكانٍ منفرد، عندما تتسلل عينيه علي في أحد غرف منزل العائلة الكبير، أو حين نتواجه صدفةً في أحد الأسواق أو محلات المقاهي، كان يعمد أن يرمي غموضه في وسط حضني ويرحل دون أي رغبة في منحي فرصة حديث، نتصارح بها عن هذا الخطب الغريب.
فكرت مراراً، ما إن كان الإعتراف ســـ يحل كل شيء؟ ما إن كان الحديث معه بصراحةٍ لا تحمل مراوغة عن تصرفاته الجديدة التي باتت تزعجني جداً سيأتي بالسر؟، ما إن كان سؤاله مباشرة عن الخطأ الذي اقترفته سيأتيني بالجواب الذي أرهقت ذاتي طويلاً في معرفته، لكن جل ما يخبرني به احساسي، هو أن أصمت، وأترك هذا الإجحاف بيديه حتى ينصفه بعدالة عادلة !!
وفي إحدى المرات:
- واااو صيب حدك زوغة اليوم فيك شي متغير، ها من ورانا
" وقد كانت محاولة مني لإذابة الجليد "
- فكينا زين !
وفر هارباً .. من جديد .. وأوجعني هذه المرة !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق